فصل: تفسير الآيات (1- 7):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (65- 88):

{قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
بعد هذه المشاهد التي وقف فيها النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، على أخبار بعض أنبياء اللّه ورسله، ممن ابتلاهم اللّه، ومن عافاهم، وبعد أن رأى المؤمنون ما أعد اللّه لهم في جناته من نعيم خالد، ورضوان مقيم، ورأى المشركون جهنم وما يلقاه أهل الضلال والطغيان فيها من بلاء عظيم- بعد هذا كله- والمشاعر متوفزة والقلوب واجفة- يلتقى النبي مرة أخرى مع المشركين، يذكرهم برسالته فيهم، وشأنه بهذه الرسالة معهم.. وأنه إنما هو منذر أي مبلّغ ما أمر به من ربه، وليس له عليهم من سلطان.
وقوله تعالى: {وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} هو من مقول القول، الذي يقوله النبيّ للمشركين، وينذرهم به، وهو أن يؤمنوا بإله واحد، قهار، يذل الجبابرة، ويقصم ظهور الظالمين.
قوله تعالى: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
هو من مقول القول أيضا، وهو عطف بيان على قوله تعالى: {الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
أي ما من إله إلا اللّه الواحد القهار خالق السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار.. فهذه بعض صفات الإله المتفرد بالألوهة، المستحق للعبادة.
قوله تعالى: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ}.
النبأ العظيم، هو ما حدثتهم به الآيتان السابقتان عن اللّه سبحانه وتعالى، وعما يليق له- سبحانه- من صفات الفردية والقهر والجلال، والعزة والمغفرة.. فهذا نبأ عظيم، يطلع على الناس بالهدى، ويقيمهم على طريق الفلاح، لو استقاموا عليه.. ولكن المشركين معرضون عنه، مستخفّون به، لا يعطونه آذانا مصغية، ولا يفتحون له قلوبا واعية.
قوله تعالى: {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
أي هذا النبأ العظيم الذي حدثتكم به، ليس من عندى، وإنما هو من عند اللّه.
ولكنكم لا تصدقون أنى رسول اللّه، وأنى أتلقى ما يوحى به إلىّ من آياته وكلماته.
أنتم لا تصدّقون هذا، وتستكثرون فضل اللّه علىّ، أو تستكثرون أن يتصل اللّه ببشر.
فإذا كان هذا ظنكم بربكم، وهذا رأيكم فىّ.. فما قولكم في هذه الأخبار السماوية، وتلك الأحداث التي وقعت في العالم العلوي غير المنظور أو المسموع- ما قولكم في هذه الأخبار التي تحدثكم بها آيات اللّه وكلماته؟ أهي من عندى أيضا؟ إنه {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
فأنا معكم على هذه الأرض.. وهل لمن كان من عالم الأرض أن يتصل بالعالم العلوي، ويعلم ما يدور هناك، إلا إذا كان موصولا بهذا العالم، مدعوّا إليه من ربه؟.
والذي يختصم فيه الملأ الأعلى، هو ما ستعرضه الآيات التالية، من موقف الملائكة، وإبليس من خلق آدم، ومن أمر اللّه سبحانه، بالسجود له.
قوله تعالى: {إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
فهذا الذي أحدثكم به، أو تحدثكم به آيات اللّه عن الملأ الأعلى، هو وحي من عند اللّه، وما أنا إلا بشر مثلكم، وما {يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
لا شيء أكثر من هذا.. إنى أبلّغ ما يوحى إلىّ به، لا أدخل عليه بشيء من عندى.
قوله تعالى: {إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}.
هذا ما كان من اختصام في الملأ الأعلى، وهو مما لم يكن للنبى- صلوات اللّه وسلامه عليه- علم به، كما لم يكن لبشر أن يعلمه.. ولكن اللّه سبحانه وتعالى أخبره به وحيا من عنده، بهذه الآيات التي يتلوها على العالمين.
وفى التعبير عما كان بين اللّه سبحانه وتعالى، وبين إبليس- لعنه اللّه- في التعبير عنه بالاختصام- إشارة إلى تطاول هذا اللعين، وإلى موقفه من ربه موقف جدل واختصام، وذلك لشقوته التي غلبت عليه، بما سبق من قضاء اللّه فيه.
وأنه إذا كان في الملأ الأعلى من يكفر باللّه، ويعمى عن طريق الهدى وهو في عالم النور والصفاء والطهر، فإن في العالم الأرضى، عالم الظلام والكثافة، كثيرين وكثيرين، ممن يكفرون باللّه، ويركبون مراكب الضلال.. وأنه إذا كان الكفر باللّه، والخروج عن طاعته، لا يعصم أهل الملأ الأعلى من أن يردّوا إلى عالم الظلام، وأن يكونوا في الدّرك الأسفل من مخلوقات اللّه، فإن الكفر باللّه والخروج عن طاعته، لا يعصم من كان في العالم الأرضى، أن يردّ إلى ما دون هذا العالم، وأن يلقى به في عذاب السعير.
ثم إنه- من جهة أخرى- إذا كان في الملأ الأعلى ملائكة مقرّبون، لا يعصون اللّه ما أمرهم، فيزدادون بذلك قربا من اللّه- فإن في العالم الأرضى من يرتفع عن هذا العالم، بإيمانه باللّه، وولائه له، وينزل منازل الرحمة والرضوان، في جنات النعيم.
وهكذا.. رجيم من العالم العلوي يهوى إلى الأرض، وشهب من الأرض، تصعد إلى السماء، وتتألق بين كواكبها ونجومها..!
فأىّ من هذين الفريقين من أهل الأرض يكون هؤلاء المشركون؟
أيظلون على كفرهم باللّه، فيهوى بهم كفرهم إلى قرار الجحيم، أم يؤمنون باللّه، ويسعون إلى مرضاته، فيرتفعون عن هذا التراب، ويصعدون إلى الملأ الأعلى، ويصبحون من أهله؟.
وقوله تعالى: {قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} هو قسم من اللّه سبحانه وتعالى بأن تمتلئ جهنم من إبليس، وممن شايعه واتبع سبيله من الناس.. وفى هذا وعيد شديد من اللّه، بأن لجهنم أهلها من بنى آدم، وهم كثير تمتلئ بهم على سعتها.. فليطلب كل إنسان السلامة لنفسه منها، والنجاة من أن يكون من أهلها، فإن لها أهلا- نعوذ باللّه أن نكون منهم- وإنه لا نجاة إلا بالإيمان باللّه، والعمل الصالح.. فاللهم اجعلنا من المؤمنين بك، الساعين في مرضاتك، الفائزين برضاك ورضوانك.
قوله تعالى: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
بهذه الآيات تختم السورة، ويلتقى ختامها ببدئها.. فقد بدأت بالقسم بالقرآن الكريم، ذى الذكر، تعظيما له، وإلفاتا إلى ما فيه من هدى ورحمة.. وختمت بالتذكير بالنبيّ، وبرسالته، وبالكتاب الذي بين يديه.
فالنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- ليس إلا رسولا من عند اللّه يبلغ ما أرسل به، وإنه لا يسأل الناس على ما يدعوهم إليه أجرا، ولا يتكلف لدعوته ما يخرج به عن حدود التبليغ، فلا يقهر أحدا، ولا يختله أو يخدعه، حتى يستجيب له: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ}.
أي ما هذا القرآن الذي بين يديه إلا ذكر للعالمين، والذكر مكانه العقول، وما يقع فيها من اقتناع بما تذكّر به.. {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها}.
وقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
تهديد للمشركين، ووعيد لهم، بما يلقون من عذاب شديد، يوم يكشف لهم الغطاء عما حجبه العناد والضلال عنهم.. ويومئذ يرون أنهم كانوا في عمى وضلال، وأن ما فاتهم لا يمكن تداركه أبدا.. {يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتنى كنت ترابا}.

.سورة الزمر:

نزولها: مكية.
عدد آياتها: خمس وسبعون.. آية عدد كلماتها: ألف ومائة وسبعون.. كلمة عدد حروفها: أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية أحرف.
مناسبتها لما قبلها:
ختمت سورة ص بما بدئت به، من تنويه بشأن القرآن الكريم، وما فيه من هدى ورحمة. وكانت السورة كلها معرضا لمواقع الهدى من الناس، على مختلف منازلهم، من أنبياء أخلصهم اللّه بخالصة النبوّة، وأنبياء جمع اللّه لهم بين النبوة والملك، ومؤمنين اقتبسوا من هدى النبوّة، وكافرين، ضلّوا عن سواء السبيل، فكفروا باللّه.
وهنا تبدأ سورة الزمر بذكر القرآن الكريم، والمتنزّل العالي الكريم تنزل منه.. ثم بدعوة النبيّ الكريم إلى الأخذ بهذا الكتاب الذي نزل عليه، وبإخلاص العبودية للّه، لا يشغله عن ذلك ما يسوق إليه المشركون من كيد وأذّى.
بسم اللّه الرّحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 7):

{تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)}.
التفسير:
قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
هو جواب عن سؤال أو أسئلة كثيرة، كانت تدور في رءوس المشركين وتجرى على ألسنتهم: من أين جاء محمد بهذا الذي يحدثنا به؟ ومن علّمه هذا؟
ومن أي الكتب أخذه؟ إلى غير ذلك مما كانوا يحدثون به أنفسهم، ويتحدث به بعضهم إلى بعض في شأن القرآن.. وقد جاء في آخر السورة السابقة ص ما يجيب- إجابة غير مباشرة- عن تلك الأسئلة، فقال تعالى على لسان نبيه الكريم: {ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ}.
ثم جاء بعد هذا من آيات اللّه، ما يحدّث عن هذا الاختصام، الأمر الذي يقطع بأن النبيّ على صلة بالملأ الأعلى، حتى يكون له أن يأتى ببعض ما يقع هناك من أمور.
وهنا في قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} إجابة مباشرة عن تلك الأسئلة التي يسألها المشركون عن المصدر الذي جاء منه القرآن.. وإذ كان سؤالهم أو أسئلتهم، تنحصر في هذا المحتوى: من أين هذا الكتاب؟ فكان الجواب: من اللّه العزيز الحكيم تنزيله.
وقد جاء النظم القرآنى هكذا: {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} بتقديم الجهة التي نزل منها على الذات التي أنزلته- إشارة إلى أنه صادر من جهة عالية، وأنه ليس مما على هذه الأرض، وما فيها من جهات وذوات.. وبهذا ينعزل القرآن عن أن يكون من العالم الأرضى. إنه نور خالص، لمن نظر فيه، والسماء هي مصدر كل نور على هذه الأرض.. فإذا تقرر ذلك، كان البحث في طبيعة هذا النور، وهل هو نور إلهى، أم من ذلك النور الذي تشعّه الكواكب والنجوم؟ وإمعان النظر في القرآن يكشف للناظر عن أنه نور إلهى، لا ينكسر ضوؤه، ولا تغرب شمسه أبدا.. وإذن فهو نور من اللّه.. {تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} أي قد نزل إليك أيها النبي هذا الكتاب من ربك شائبة بالحقّ.. الذي لا يعلق به باطل.. فهو يحمل إليك الحق خالصا من كل شائبة، فمن نظر في آياته، وتدبر في كلماته، عرف طريق الحق واضحا مشرقا.. وإذ كان ذلك هو ما عرفت من آيات اللّه وكلماته من حق، فاعبد اللّه على هذه المعرفة، عبادة خالصة، تملأ القلب، وتملك المشاعر، وتستولى على الوجدان.. فلا ترى غير اللّه الحق.
وإذ كان اللّه سبحانه، هو الحق، وما سواه- بالإضافة إليه- باطل، فكل ولاء لغيره، باطل، وكل تعبّد لسواه، ضلال.. فالعبودية الخالصة له وحده سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ}.
أي وأما الذين لم يخلصوا عبوديتهم للّه لم يجعلوا ولاءهم خالصا له. واتخذوا من دونه أولياء، قائلين: ما نعبدهم إلا لنتقرب بهم إلى اللّه، ونزلف بهم إلى مرضاته- هؤلاء سيحكم اللّه بينهم يوم القيامة، فيما هم فيه يختلفون من أمر اللّه، وفى وتصورهم الباطل لذاته، وجعل معبوداتهم شفعاء لهم عند اللّه، لأنهم- كما يزعمون- أبناؤه، أو بناته، أو شركاء له في الخلق والتصريف! وفى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ} حكم على مدّعيات هؤلاء المشركين، بأنها من ملفقات الأكاذيب، وأن الكفر هو صفة من يدين بهذا الإفك، ويقيم معتقده على هذه الأكاذيب، وأن من سلك هذا الطريق، ولم يراجع نفسه، ويصحح معتقده، فإن للّه سيخلى بينه وبين الضلال الذي هو فيه، فلن يهتدى أبدا.
قوله تعالى: {لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}.
أي لو أراد اللّه سبحانه أن يتخذ له ولدا- كما يزعم هؤلاء الضالون- لاختاره هو سبحانه، ولخلقه على ما يشاء، لا أن يختاره له هؤلاء الضالون، كما يقول سبحانه عنهم: {وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [100: الأنعام].
وقوله تعالى: {سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ} تنزيه للّه عن أن يكون له ولد.. فهو سبحانه {الواحد} الذي لا شريك له.. والولد شريك للوالد، وهو سبحانه {القهار} أي القوى الذي لا يغلب.. فليس به إلى الولد حاجة، مما يبغيه الوالدون من الأولاد.
قوله تعالى: {خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
ذلك هو بعض سلطان اللّه، وتلك هي بعض قدرته.. فالسموات والأرض صنعة يده.. وبعض خلقه.. وقد خلقهما سبحانه بالحق، الذي هو صفته.
وقوله تعالى {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ}.
يشير إلى أمور:
أولها: أن النهار والليل يكوّر كل منهما على الآخر، في حركة دائبة.
حيث لا يكون نهار إلا كور عليه الليل، ولا يكون ليل إلا كور عليه النهار.
وثانيهما: أن التكوير يعنى الحجب والتغطية من الأعلى للأسفل، إذ أن أصله من تكوير العمامة على الرأس.. يقال كر العمامة، وكورها، أي لفها على رأسه، حتى صارت مثل الكرة.
وثالثها: أن هذه الصورة من التكوير، تشير إلى كروية الأرض، وإلى أن الليل والنهار يتحركان فوق كرة، أشبه بالعمامة التي تعلو الرأس.
ورابعها: أن لفظ {يكور} يشير إلى أن الأرض متحركة، وأن هذا التكوير الذي يجرى على الكرة، إنما يقع حالا بعد حال، ووقتا بعد وقت.
وخامسها: تقديم تكوير الليل على النهار، إشارة إلى اتجاه حركة الأرض، بعد لإشارة إلى شكلها الكروي وإلى حركتها- فإن هذه الحركة من الغرب إلى الشرق، حيث يكون النهار أولا، ثم يتلوه الليل فيتكور عليه، ثم يعقبه النهار، فيعلوه متكورا عليه كذلك.. وهكذا.
قوله تعالى: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى}.
أي وأجرى الشمس والقمر، وسخرهما بقدرته، وأقامهما على نظام محكم لا يخرجان عنه.. فلكلّ فلكه الذي يجرى فيه.. لا يتعداه.
وقوله تعالى: {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ}.
إشارة إلى عزّة اللّه وقوته، وأنه القهّار الذي يخضع كل موجود لسلطانه.. ومن كان هذا شأنه فإن نسبة الولد إليه ضلال مبين، وسفه جهول.. لأن الولد إنما يسدّ نقصا، ويشبع رغبة، ويرضى عاطفة.. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
واللّه سبحانه وتعالى مع عزّته وقوته، فهو غفار للسيئات، غفور للمذنبين، إذا هم تابوا إلى اللّه، واستغفروا لذنوبهم! {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [135 آل عمران].
قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} هو كشف لوجه آخر من وجوه قدرة اللّه سبحانه.. تلك القدرة المتمكنة من كل شيء، المتصرفة في كل شيء، المستغنية عن كل شيء.
ومن دلائل تلك القدرة خلق الناس جميعا من نفس واحدة، أي طبيعة واحدة، أو جرثومة واحدة، هي الجرثومة الأولى التي تخلّق منها الكائن الحىّ.
وفى قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها}.
إشارة إلى أمرين:
أولهما: أن الجعل غير الخلق. فالخلق إيجاد للمخلوق، والجعل، إظهار لما في المخلوق من خصائص، وإبراز ما اشتمل عليه من صفات.. وهذا مثل قوله تعالى: {وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها}.
وهذا يعنى أن الجرثومة الأولى للحياة، كانت ذكرا وأنثى معا.. ثم حصل التوالد بانقسام الكائن الحىّ على نفسه.. كلّ قسم يحوى جرثومة ذكرا وأنثى.. وهكذا تتوالد الخلايا بانقسامها على نفسها.
وثانيهما: أن انفصال الذكر عن الأنثى جاء في مرحلة متأخرة، بمعنى أنه كان بين الخلق والجعل آمادا طويلة، وأزمانا ممتدة، وهذا هو السرّ- واللّه أعلم- في العطف بحرف {ثم} الذي يفيد الامتداد والتراخي في الزمن.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}.
التعبير بالإنزال دون الخلق. إشارة إلى أنها نعم منزلة من عند اللّه.. وأن شأنها في حياة الإنسان عظيم، أشبه بالغيث الذي ينزل من السماء.
والأنعام الثمانية، هي ما أشار إليها سبحانه وتعالى في قوله: {ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا} [143- 144: الأنعام].
فهى أربعة أصناف: الضأن، والمعز، والإبل، والبقر.. وكل صنف منها ذكر وأنثى، فهى ثمانية متزوجة، ذكر وأنثى. كلّ منها زوج للآخر.
وقوله تعالى: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ}.
أي أن هذا التوالد، هو خلق جديد لكل كائن يولد، وليس عملا آنيّا يتم بغير حساب وتقدير.. بل إنه ليس خلقا واحدا، وإنما هو خلق بعد خلق، وأطوار بعد أطوار، يلبسها الكائن إلى آخر مرحلة الخلق، حتى يستوى خلقه ويصبح على الصورة التي قدّر اللّه سبحانه إخراجه عليها.. وهذا الخلق يقع في عالم خفىّ محجّب بحجب ثلاثة، تلفّه في كيانها، واحدا بعد واحد.. هي البطن، فالرّحم، فالمشية التي يغلّف فيها الجنين داخل الرحم!! ففى هذا الكون الضيق المظلم، تجرى عمليات الخلق والتكوين، والتصوير، بيد المبدع، الخلاق العليم! وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}.
{ذلكم} إشارة إلى من خلق هذا الخلق وأبدعه، وأخرجه على هذا النظام المحكم.. واللام للبعد، وهى إشارة إلى علو مقام المشار إليه، وهو اللّه سبحانه.. والكاف حرف خطاب للمخلوقين.. فهذا الخالق العظيم، هو اللّه، وهو رب كل مخلوق، خلقا ورزقا، وهو المتفرد بملكية الوجود، وهو- سبحانه- بهذه الصفات، ينبغى أن يكون الإله المتفرد بالألوهة.
{لا إله إلا هو}.
تتجه إليه وحده الوجوه، وتفوض إليه وحده الأمور.
فإلى أين يولّى المشركون وجوههم، إذا هم صرفوها عن اللّه؟ إنه لا وجه إلا الضلال والخسران! قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
هو تعقيب على تلك الدعوة التي دعا بها اللّه سبحانه وتعالى عباده إليه بقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ}.
بعد أن بيّن لهم- سبحانه- آيات بينات من دلائل قدرته، وآثار رحمته.. فمن استجاب لهذه الدعوة، وآمن باللّه إلها واحدا لا شريك له، فقد اهتدى إلى طريق الخير والفلاح، ومن كفر فإن اللّه غنىّ عن العالمين، لا ينفعه إيمان من آمن، ولا يضره كفر من كفر. {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [12: لقمان].
{وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى} أي لا تحمل نفس وزر نفس أخرى، بل {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
{ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} فلا تخفى على اللّه منكم خافية، فيجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
وهنا أمور:
فأولا: قوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ}:
ما معنى رضا اللّه هنا؟ وإذا كان سبحانه لا يرضى شيئا فكيف يقع ما لا يرضاه؟
المراد بالرضا هنا، القبول، ويكون معنى أن اللّه لا يرضى لعباده الكفر، أنه- سبحانه- لا يقبله منهم، لأنه تعالى، طيب، لا يقبل إلا طيبا.. والكفر نجس، وخبث.
ووجه آخر في هذه الآية: وهو أن المراد بالعباد هنا، هم المؤمنون، ولهذا أضافهم للّه سبحانه وتعالى إليه في قوله تعالى: {لعباده}، ويكون معنى الرضا على حقيقته، وهو أن اللّه سبحانه لا يرضى لعباده الذين أراد لهم الإيمان أن يكفروا، فهو سبحانه يهديهم إلى الإيمان، وييسر لهم السبيل إليه- وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً} [3: المائدة].
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} دعوة للمؤمنين- وكلهم عباد اللّه- أن يكونوا بالمكان الذي يرضاه اللّه لهم، ويقبله منهم، وأن ينأوا عما لا يرضاه اللّه لهم، فإنهم عباده! وثانيا: قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ}.
ما المراد بالشكر هنا؟ وهل هو الإيمان المقابل للكفر؟ أم هو أمر آخر وراء الإيمان؟
الشكر هنا- واللّه أعلم- هو أمر مترتب على الإيمان.. وهو مطلوب من المؤمنين الذين هداهم اللّه إلى الإيمان، ويسر لهم سبله.. فكانوا في المؤمنين، ويجب بعد هذا أن يكونوا من الشاكرين، أن هداهم اللّه إلى الإيمان.
وثالثا: ما ذا عن الذين كفروا؟ أرضى اللّه لهم الكفر، وذلك بمفهوم المخالفة لقوله تعالى: {وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ} على أن المراد بعباده هم المؤمنون خاصة؟
الجواب- واللّه أعلم- أن كفر الكافرين وإن كان إرادة للّه سبحانه فيهم، ومشيئة له غالبة عليهم- فإنه مطلوب منهم أن يعملوا إرادتهم، ويحركوا مشيئتهم إلى الإيمان، لأنهم لا يدرون ما إرادة اللّه فيهم ولا مشيئته بهم.. وتلك هي الحجة القائمة عليهم.
أما أن مشيئة اللّه هي النافذة، وإرادته هي الغالبة، فهذا أمر لم يمنع العقلاء من أن يعملوا في كل ميدان من ميادين العمل.. ثم هم صائرون حتما إلى مشيئة اللّه وقدره {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].
وهذا هو موضوع قد عرضنا له أكثر من موضع من هذا التفسير، وأفردناه ببحث خاص، تحت عنوان القضاء والقدر.